كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب:
منها: الحلف والتبني والمعاقدة:
ومنه قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}.
وقال آخرون: ما كان الميراث ثابتا قط بالمعاقدة، والذي في القرآن من قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من الموالاة والنصرة والمعافاة والمشورة.
نعم هذا الخيال إنما نشأ من شيء، وهو أن اللّه تعالى قال: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفًا}.
فظنوا أن الآية دلت على ثبوت الميراث بوجه آخر، وليس الأمر كذلك، فإن المراد بذلك: وأولوا الأرحام أولى من المؤمنين، فإن المؤمنين ورثة، إذ المراد ذوو الأرحام.
وقوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفًا} الوصية، وإلا فلا ثبوت للميراث بالمعاقدة من جهة النص، والآثار متعارضة، والذي في القرآن: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.
إنما عنى به في الميراث بالإسلام، إذا لم تكن قرابة، فإن الشافعي رضي اللّه عنه، يرى المسلمين ورثة في ذلك الوقت، ما كان الإسلام كافيا في هذا المعنى دون المهاجرة مع الإسلام، وإلا فلا وجه لدعوى من يدعي أن المحالفة المجردة، أو الهجرة المجردة، مورثة مع وجود الهجرة في حق ذوي الأرحام والعصبات، إذ جائز أن يكون قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: آتوهم نصيبهم من الوصية، ولعله كانت الوصية واجبة لهؤلاء، ثم نسخت الوصية، والأول أظهر.
وأبو حنيفة يرى التوريث بالحلف والمعاقدة، ويقول: إن حكمها ما نسخ، ولكن جعلت الرحم أولى منها.
فهو يرى أن الأسباب التي يورث بها شتى، فمنها الإسلام، ومنها المعاقدة والتواخي في الدين، والاتحاد في الديوان، وفوقها الولاء، وفوقها الزوجية، وكان الرجل إذا مات اعتدت امرأته سنة كاملة في بيته، ينفق عليها من تركته، وهو قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ}- إلى قوله: {مَتاعًا إِلَى الْحَوْلِ} ثم نسخ ذلك بالربع والثمن.
وقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}، نسخ به وجوب الميراث للذين ذكر ميراثهم في كتاب اللّه تعالى، والأقربون الذين ليسوا بوارثين، فأبان دخولهم تحت اللفظ تعينا، ولكن اللفظ عموم في حقهم، فلم يتبين قطعا وجوب الوصية لأولئك النفر، الذين لم يبين اللّه ميراثهم، فلا نسخ من هذا الوجه، وإنما هو تخصيص عموم.
والدليل عليه أن كل الميراث لهؤلاء المذكورين، وما قال الشرع للعصبة كل الميراث وللبنتين الثلثان، بل كان يقال: للوصية قسط واجب، فما يفضل عنها فهو لكذا، ولم يتبين وجوب الوصية في هذه الآية بل قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ}، وربما كان الدين أو لم يكن، وربما كانت الوصية أو لم تكن، فهذا تمام ما يتعلق بهذا النوع.
قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}، حقيقة في أولاد الصلب فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز، وإذا حلف لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث، فإذا أوصى لولد فلان، لم يدخل فيه ولد ولده، وأبو حنيفة يقول: إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب، ومعلوم أن حقائق الألفاظ لم تتغير بما قالوه.
وقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}: ليس فيه تقدير ميراث كل واحد منهم ومبلغ ما يستحقه، بل فيه أن ما كان من قليل أو كثير فبين الأولاد على هذه النسبة، وذلك يتناول ما فضل عن أصحاب الفرائض، وما يأخذون من جميع المال إذا لم يكن صاحب فرض.
وإذا لم يكن في ميراثهم تحديد، فالذي يصل إليهم هو تمام حقهم قل أو كثر، وذلك يقتضي تقديم أصحاب الفرائض، فإنه لو لم يفعل ذلك لم يكمل لهم حقهم، وإذا قدم وفضل شيء، فقد استوفى العصبة تمام حقه، فهذا وجه البداية بأصحاب الفروض.
قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [11]:
ولم يبين حكم الاثنتين، فنقل عن ابن عباس أن الآية نص قاطع في أن لا يزاد منه بسبب الثلثين شيء، فإن قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} تقييد نصا، ونفي لما دون هذا العدد.
قال قائلون من العلماء: إن بيان الاثنتين كان ظاهرا في كتاب اللّه تعالى، وإنما احتاج إلى بيان أن الثنتين فصاعدا لا يزيد حقهم على الثلثين، فكان قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} لنفي المزيد.
ووجه دلالة الآية على بيان حكم الاثنتين، أن اللّه تعالى لما أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث، فإذا كان لها مع الذكر الثلث، فلأن لا تنقص من الثلث مع البنت أولى، ولو جعلنا للبنتين النصف، نقصت حصة الواحدة من الثلث.
ويمكن أن يعترض على هذا فيقال: إنما استحقت الثلث مع الذكر، لا لأن المأخوذ ثلث التركة التامة، بل لأنها عصبة بأخيها، والمال بينهما أثلاث، ولا يأخذان إلا ما بقي في حالة، وكل المال في حالة.. أما البنت فتأخذ مقدارا من جملة التركة من غير نقصان من نصف الجملة، وذلك مقيد بشرط، فإذا لم يوجد الشرط لم يثبت القدر.
ويدل عليه أنه لو قال قائل: الابن ربما أخذ أقل من نصف التركة، والبنت لا تأخذ أقل من نصف جميع التركة، فيقال: لأن الابن عصبة فيأخذ ما بقي، والبنت صاحبة الفرض، وهذا بيّن.
ومما ذكره العلماء في ذلك، أن اللّه تعالى قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فلو ترك بنتا وابنا، كان للابن سهمان ثلثا المال، وهو حظ الأنثيين، وهذا مثل الأول.
والاعتراض عليه كما مضى، فإن الابن لا يستحق ثلثي جميع التركة، بل يستحق بالعصوبة أي قدر، وتلك العصوبة تشمل الذكر والأنثى، والمال بينهما على نسبة التفاوت.
وأقوى ما قيل فيه، أن اللّه تعالى جعل للأختين الثلثين في نص الكتاب فقال: {فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ}، ومعلوم أن أولاد الميت أولى من أولاد أب الميت، فدل أن بيان الاثنتين مقدر في كتاب اللّه تعالى.
واحتيج إلى بيان نفي المزيد على الثلثين عند زيادة عدد البنات، ولم يتعرض لهذا المعنى في ميراث الأخوات، لأن فيما ذكر من ميراث البنات بيان ذلك، ولم يذكر بيان البنتين في ميراث البنات، لأن فيما ذكر من ميراث الأخوات بيان ذلك، فاشتملت الآيتان على بيان نفي المزيد عند زيادة العدد، وعلى بيان ميراث البنتين، وهذا غاية البيان.
واستدلوا أيضا على ذلك بما روي عن ابن مسعود، أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قضى في بنت، وبنت ابن، وأخت، بأن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للأخت، فإذا كان للبنت مع ابنة الابن من التركة الثلثان، فالبنتان أحق بذلك وأقرب، لأنهما أقرب من بنت الابن، وإن أمكن أن يعترض على هذا، فإن الذي لبنت الابن فرض آخر، وليس من ميراث البنت في شيء، وإنما الكلام في أن النصف إذا كان للواحد، فهل يزداد ذلك لسبب وجود بنت أخرى، أو يتقاسمان ذلك النصف، فأما السدس فلا تعلق له بفريضة البنت أصلا، وإنما اتفق أن المبلغين صارا إلى مقدار الثلثين.
وقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في تركة سعد بن الربيع، للبنتين الثلثين، وللزوجة الثمن، والباقي لأخته.
وقضى بذلك في ابنتي ثابت بن قيس بن شماس.
والآية ليست نصا في نفي ما دون الثلثين عما دون الثلاث من البنات، بل محتملة ما ذكرناه.
وقد قيل: قوله: {فوق} صلة وتأكيد، كأنه قال: {فإن كنّ نساء اثنتين} ومثله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ}، وهذا تأويل بعيد، وما ذكرناه أولا هو الصحيح، ومما دلت الآية عليه أنه لما لم يبين مقدار ميراث البنتين، عرفنا من قوله تعالى في حق الأخ: {وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ}، أن الأخ لما جعل عصبة حائزا للميراث مطلقا، فالابن بذلك أولى.
وجملة القول فيه أن اللّه تعالى لما بين كيف يقتسم الذكور والإناث، لم يحد ميراثهم بحد، لأنهم يرثون المال مرة جميعه، ومرة ما فضل عن فرض ذوي السهام، ولو حد لهم حدا، لضاربو ذوي السهام إذا ضاق المال عن حمل السهام، ولأزيدوا عليه إذا انفردوا، وتحرجوا عن حكم من يرث بالتعصيب إلى حكم من يرث بالفرض، فهذا بيان معنى التعصيب في ميراث.
قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ (11)}:
فظاهره يقتضي أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد، ذكرا كان أو أنثى، فيقتضي ذلك إلى إنه إذا كان الولد بنتا فلها النصف، ولا تستحق أكثر من النصف لقوله: {وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}.
فوجب بحكم الظاهر أن يعطي الأب السدس لقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}، ويبقى السدس يستحقه الأب بحكم التعصيب.
فاجتمع للأب الاستحقاق من جهتين: التعصيب والفرض.
وإن كان الولد ذكرا، فللأبوين السدسان بحكم النص، والباقي للابن لأنه أقرب العصبات من الأب، فخرجت منه مسألة البنت والأبوين، وما ذكره الفرضيون من الجمع للأب بين الفرض والتعصيب.
وقال عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}، ولم يذكر نصيب الأب، فاقتضى ظاهر اللفظ أن للأب الثلثين، إذ ليس هناك مستحق غيره، وقد أثبت لهما أولا، فاقتضى ظاهر اللفظ المساواة لو اقتصر على قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَواهُ}، دون تفصيل نصيب الأم، فلما ذكر نصيب الأم، دل على أن للأب الثلثين، وهو الباقي بحكم العصوبة، وبين اللّه تعالى ميراث الأم مع الأب، وفرض لغيرها من الورثة عند الانفراد مثل البنت والأخت وغيرهما من أصحاب الفروض، كالزوج والزوجة.
والحكمة فيه: أنه عز وجل أراد أن يبين حجبها بمن لا يرث في قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} إلى قوله: {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}، فلو ذكر ميراثها؟ منفردة، لاحتمل أنها لا يحجبها من لا يرث مثل الأخوة مع الأب، فأزال هذا الإشكال، وأفاد هذه الفائدة، حتى لا يتوهم أن الذي لا يرث بحاجب الأشخاص، كالأخوة الذين يحجبون بالأوصاف مثل القتل والرق والكفر، فهذا بيان هذا المعنى.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}، وقد حجبها جماهير العلماء بأخوين، وانفرد ابن عباس، فاعتبر في حجبها من الثلث إلى السدس، ولا شك أن ظاهر قوله: {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ}، يقتضي أن ما دون ذلك وضعت العرب له اسم التثنية، وقد غايرت العرب بين المنزلتين، أعني منزلة التثنية والجمع في ظاهر إطلاق اللفظ.
وليس الكلام في أن معنى الجمع هل يتحقق في الإثنين أم لا، فإن المعنى بذلك أن لفظ الجمع المركب من الجيم والميم والعين حقيقة في الإثنين، فإنه مشتق من الاجتماع والضم، ويتحقق ذلك في الاثنتين تحققه في الثلاثة، وإنما الكلام في لفظ الأخوة هل يظهر إطلاقه على موضع الأخوان؟
ويجوز أن تفترق منازل الجموع في إطلاق ألفاظ، مثل قول القائل عشرة دراهم ومائة درهم، وقد لا تفترق، فيكون التعبير عن الإثنين مثل التعبير عن الثلاثة، من غير أن ترتيب المنازل من التثنية والواحد أن الجمع مثل قولك: قمنا لنفسه وأخرى معه، ولنفسه وآخرين معه من غير فصل.
فإذا تقرر ذلك، فليس في قول القائل إن لفظ الجمع حقيقة في الاثنين أخذا من موضع الاشتقاق وهو الجمع، جواب عن احتجاج ابن عباس بظاهر كتاب اللّه عز وجل في إطلاق الأخوة في موضع الأخوين، وهذا بيّن.
نعم، قد يطلق لفظ الأخوة على الأخوين معدولا به عن الأصل، كما يطلق لفظ الجمع في موضع الواحد، ويعبر عن الواحد بلفظ الاثنين.
مثل قوله: {نَحْنُ قَسَمْنا}، والتعبير عن الواحد بلفظ الاثنين كقوله تعالى: {أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ} وهو يريد الواحد، إلا أن كل ذلك خلاف الأصل والوضع، وليس الكلام فيه.
وليس يبقى بعد النزول عن الظاهر إلا أن يقال: النص وإن ورد في الثلاث، فلا يمتنع الاثنتين به بطريق الاعتبار.